قِوى كازيمير: الحصولُ على شيءٍ من اللا شيء







كَما هُوَ مَعْرُوفٌ في الْعَالمِ الكموميِّ والفيزياءِ الحديثةِ فَإِنَّ الْفَراغَ (Vacuum) لَيْسَ فَارِغًا بِشَكْلٍ تامٍّ، بَلْ تَمْلَؤُهُ اهتزازاتٌ لأَمواجٍ كهرومغناطيسية لا تختفيَ بشكلٍ تامّ اطلاقًا، تمامًا كالأمواجِ في الْمحيطِ غيرِ القابلة للتوقُّفِ أَبَدًا. تَأتي هذه الأَمواج بِكُلِّ الأطوال الموجيّة الممكنة، ووجودُها يشيرُ إِلى أَنَّ الفراغَ يمتلِكُ كميّةً معيّنةً مِنَ الطَّاقة. وبهذا فإن الاعتقادَ السَّائِدَ قَديمًا بكونِ الْفراغِ بكلِّ بساطة هو ما يتبقّى عِنْدَ إِفراغِ الحاوي مِنْ كُلِّ الْجُسَيْماتِ والأَجْسامِ وَخفضِ درجةَ الحرارةِ إِلى الصِّفرِ الْمُطْلَقِ غيرُ صحيح! فكُلُّ الْحُقولِ بِما فيها الْحَقْلُ المغناطيسيّ تهتزّ. حتّى الفراغ التامّ في الصِّفر المُطْلَقِ توجد فيهِ حُقولٍ مُهْتَزَّةٍ تُعرِفُ باسمِ :" اهتزازاتٍ الفراغِ" أو "تموّجات الفراغ" Vacuum fluctuations.
إنّ اهتزازات الفراغ ليست فقط فكرةً مجرّدة في عقول الفيزيائيين، بل لها العديد من النتائج والتطبيقات التي يمكنُ رصدُها في التجارب المختصّة بالأجسام الصغيرة ذات المقاييس الميكرونيّة أو الأصغر. على سبيل المثال، لن تبقى الذرّة في حالة مثارة (Excited state) طويلًا، بل ستحرّر طاقةً عن طريق إطلاقِ فوتون. هذه الظاهرة ما هي إلا نتيجة لهذه الاهتزازات الكموميّة!
يعدُّ تأثيركازيمير Casimir effect الّذي تنبأ العالم هندريكس كازيمير بوجوده عام 1948 من الظواهر الّتي تَعتَمد في مبدأها على اهتزازات الفراغ، وهو تأثيرٍ مَعْروفٍ فِي مَجالِ بَصَرِيّاتِ النّانُو والنّظريةِ الْكُموميّةِ. فإذا وضعنا في الفراغ صفيحتين ناقلتين غير مشحونتين متقابلتين، تنشأُ بينهما قوّةٌ جاذبة تقرّبهما من بعضهما، بسبب تأثير الاهتزازات الكموميّة للفراغ. لكن كيف يحدثُ ذلك؟
بنفس الطريقةِ الّتي يضغطُ فيها النّهر على السّد، تمارسُ جميع المجالات الكهرومغناطيسية الحرّة أيضًا ضغطًا على الأسطح، لذلك فإنّ ضغط الحقل الكهرومغناطيسيّ الحاصلَ بسبب اهتزازات الفراغ بين الصفيحتين الناقلتين يصبحُ أقوى من الضغط الخارجيّ دافِعًا الصفيحتين لِتبتعدا عن بعضهما قليلًا.
أمّا في الخارج، يحدثُ العكس تمامًا، يزداد ضغط الحقل الكهرومغناطيسيّ دافعًا الصفيحتين لِتقتربا من بعضهما البعض. لكن في المُحصّلة تقتربُ الصفيحتان من بعضهما البعض، لأن تأثيرَ الضغط الخارجيّ أكبر من تأثير الضغط بينهما، لذلكَ يُعتبر تأثير كازيمير تأثيرًا جاذبًا



تؤثّر هذه القوى المهمة جدًا بالرغم من صغرها على الأجسام في الفراغ، وتتناسب طرديًا مع مساحة المقطعِ العرضيِّ للصفيحة الناقلة وتكبر بِنحو 16 ضعفًا كلَّ ما قمنا بتصغير المسافة بين الصفيحتين الى النصف. من الصَعبِ رَصدُ مَفعولِ كازيمير إذا كانت المسافةُ الّتي تفصلُ الصفيحتين الناقلتين عدةَ أمتار، ولكِن يُمكِنُ رَصدُه في حال كان البُعدُ صغيرًا جدًا ويقدرُّ بالميكرونات. وبالرّغم من أنّ هذا التأثيرَ صغيرٌ إلى حدٍّ ما، ولكنهُ يُعتبر من أقوى التأثيرات الّتي تحدث بين جسمين غير مشحونين.
وبالرّغمَ من أنّنا لا نتعامل في حياتنا اليومية مع قياساتٍ ميكرونيّة، إلا أنّ تأثير كازيمير قد يكون ذا أهميّةٍ كبيرة في النظم الكهروميكانيكيّة الصغيرة والتقنيات النانونيّة الّتي تصبحُ أصغر فأصغر كلَّ يوم. لذلك يعملُ الباحثون على معرفةِ كيفيّة عمل تأثير كازيمير على الأجسام النانويّة الصغيرة .
  ولمعرفة كيف يمكن لقوة كازيمير أن تؤثر على الجسيمات النانوية، نشرت مُؤَخَّرًا مَجموعة مِنَ الباحثين مِنْ جامعة نيومكسيكو ورقةً بحثيّة تُلْقِي الضَوْءَ على هذا التأثير.
درسَ الفريق مالّذي قد يحدثُ للجُسيمات النانوية الّتي تدور حول نفسها بالقرب من سطحٍ مستوٍ في الفراغ، فوجدوا أنّ تأثير كازيمير يمكن أن يدفع هذه الجسيمات النانوية جانبيًا حتى لو لم تكن تلامس السطح. هذا أمرٌ غريبٌ قليلاً، ولكن تخيل أنه لديك جسمٌ كرويٌ يلتفُّ على سطحٍ يتمّ قصفهُ باستمراربالفوتونات. وجد الباحثون أنّ دوران الجسم الكروي يتباطأ، إضافةً إلى أنّ الفوتونات ستسبب مَيل اتجاه دورانه.



تقضي قوانين الفيزياء الكلاسيكيّة أنّه من أَجلِ أَنْ يتحركَ الجسمُ الكروي بشكلٍ جانبيٍّ، عليهِ أن يحتكّ بالسطح. لكن الأمر مختلفٌ بالنسبة لقوانين الكمّ، إذ لا حاجَةَ لِهذا الاحتكاك والتّلامسِ بينَ الْجِسمِ والسَّطحِ مِنْ أَجلِ ضمانِ حدوثِ حركةٍ من هذا النوع.
وجد الباحثون أيضًا أنَّ اتّجاهُ هذهِ القوى متعلّقٌ بتغيُّرِ الْبُعْدِ بينَ الْجِسْمِ والسَّطحِ. الأمرُ الذي سيساعدُ بدورِه مهندسي تكنولوجيا النانو في التحكّم والسيطرة على الأجسام النانويّة بشكلٍ أكثرَ فعاليّةً لتوظيفها في مَجالاتِ الصّحة والالكترونيّات وفي عدّة مجالات أخرى.


شارك هذه :

مواضيع ذات صلة



الرموز التعبيرية